خلافة يزيد بن عبد الملك
هو يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو خالد القرشي الأموي، أمير المؤمنين. وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية. وُلِدَ بدمشق سنة 72هـ على أرجح الأقوال.
حياته قبل الخلافة
كان قبل خلافته محبوبًا في قريش، بجميل مأخذه بنفسه، وهديه وتواضعه وقصده، وكان الناس لا يَشُكُّون إذا صار إليه الأمر أن يسير بسيرة عمر لما ظهر منه، وقد تلقى تربيته على علماء أهل الدين والفضل فكان منهم الضحاك بن مزاحم، وعامر بن شراحيل، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر والزهري وهؤلاء العلماء اختارهم عبد الملك لتربية أولاده، وقد تأدب يزيد على يد إسماعيل بن أبي المهاجر والزهري، وكان يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، ويغشى مجالسهم، ويحضر حلقاتهم ويتأدب بآدابهم، ويصغي لكلامهم، ويقبل توجيهاتهم، ويأخذ العلم عنهم، وشيوخه الذين تلقى عنهم العلم: مكحول الزهري في الشام، والمقبري وابن العتاب من علماء المدينة، وعلى ما يبدو أنه بلغ درجة رفيعة من العلم، وبخاصة حفظ الحديث وروايته مما جعل بعضهم يعده من المحدثين، وعن ابن جابر قال: أقبل يزيد بن عبد الملك إلى مجلس مكحول، فهممنا أن نوسع له؛ فقال: دعوه يتعلم التواضع، وقد كان رأي عمر بن عبد العزيز فيه حسنًا.
توليه الخلافة
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، بعهد من أخيه سُليمان بن عبد الملك، على أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز.
سار يزيد بن عبد الملك في بادية حكمه بسيرة عمر بن عبد العزيز، إلا أنه لم يستطع المواصلة، قال عنه الذهبي: وكان لا يصلح للإمامة، مصروف الهمة إلى اللهو والغواني، وقال عنه ابن كثير: فما كان به بأس، لكن الواضح أن درايته السياسية وكفاءته الإدارية، لم تكن تؤهله لملء مكانه، وقيادة الدولة أو تحقيق العظيم من المنجزات، والفريد من السياسات التي تلفت إليها الأنظار، فكان يزيد حاكمًا عاديًا ليس سياسيًا مقتدرًا كمعاوية، أو إداريًا ناجحًا كعبد الملك، أو مصلحًا كعمر، كما لم يكن مسيئًا كابنه الوليد بن يزيد، ويمكن القول إن توليته الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز جعل المفارقة بينه وبين عمر واضحة وكبيرة، وأدت إلى عتامة صورته لدى جمهرة المسلمين.
وكان بإمكان يزيد أن يسير على نهج تجربة عمر بن عبد العزيز، ويعطي العلماء دورهم القيادي المنوط بهم كما كانوا في عهده، إلا أن العلماء تراجعوا إلى حَدٍّ كبير، وحُرِمت الأمة من تجربة ناجحة تنفست بها الصعداء، وأطلت من خلالها على عهد الخلفاء الراشدين y، ولعل هذا التراجع الذي حدث لمشاركة العلماء في عهد يزيد يرجع إلى عدة عوامل أهمها:
1- شخصية يزيد بن عبد الملك، حيث لم يكن بمكانة عمر وحماسته وحرصه على أن يسوس الناس بمنهج الله بلا محاباة ومساومة، كما لم يكن على منهج عمر في نظرته للخلافة على أنها تكليف لا تشريف، وأنها عمل لإسعاد غيره على حساب نفسه وأهله، ويدل على ذلك أن يزيد لم يُطِقْ أن يسير على نهج عمر أكثر من أربعين يومًا، ثم عدل عنه إلى نهج الملوك.
2- العامل الثاني مترتب على الأول ومرتبط به؛ إذ لما رأى العلماء عزم يزيد ترك العمل بسيرة عمر، ولم يجدوا عنده ما وجدوه عند عمر، تركوه وانصرفوا إلى مسئولياتهم العلمية، فحين قال قائل لرجاء بن حيوة لما اعتزل يزيد: إنك كنت تأتي السلطان فتركتهم! قال: إن أولئك الذين تريد قد ذهبوا". وأما ما ورد من أن يزيد تخلَّى عن السير على نهج عمر؛ لأنه شهد له أربعون شيخًا بأن ليس على الملوك حساب ولا عذاب، فهذا ادِّعاء أوهَى من أن يُرَدَّ عليه؛ فهو يتضمن في طياته الرد على مختلقه، فمن هم الشيوخ الذين شهدوا بذلك الزور؟!!
ثم إنه يتعلق بأمر من ضروريات الإيمان وبديهياته، فأي مسلم -مهما بلغ به الجهل مبلغهـ يعلم أنه يُسأل عن أعماله، ويجازَى عليها، والحديث الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" مشهور عند عامة المسلمين -فضلاً عن خاصتهم- في هذه العصور المتأخرة، فكيف بعصر صدر الإسلام؟!! ولكن حقيقة الأمر فيما ذكره ابن كثير قال: "فلما ولي يزيد عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسَّنُوا له الظلم".
تشويه صورته بالجواري في كتب التاريخ
صورت كتب التاريخ يزيد بن عبد الملك بصورة الخليفة اللاهي عن مصالح دولته لاهثًا خلف جارية، ولما ماتت رفض أن يدفنها وظل مقيمًا بجوارها حتى جَيَّفت ولما دفنوها عاد ينبشها من جديد، وفي أسانيد هذه الروايات غير واحد من المجهولين، وقصة يزيد مع جاريته في الأصل بسيطة كما يبدو، فهما جاريتان جميلتان ظريفتان مغنيتان اشتراهما يزيد بعد استخلافه، فملكتا عليه قلبه، خصوصًا حُبابة التي كَلُفَ بحبها، واشتد طربه لغنائها، فحظيت عنده، فلما ماتت حزن لموته، وجزع عليه، ولم يطل العمر به بعدها حيث مات بعدها بأيام معدودة بالطاعون -أو كان مرض السُّل- وقد أغمض كثير من المؤرخين القول بموته مطعونًا أو مسلولاً، وجعلوه كمدًا وأسفًا على فَقْد حُبابة، مع أنه من غير المستبعد موته بسبب الطاعون أو السل، بل هو الأولى، فكثيرًا ما انتشر وباء الطاعون وغيره من الأوبئة في حواضر الشام كدمشق، فكان ذلك من الأسباب التي دعت الخلفاء الأمويين إلى بناء القصور في بوادي الشام.
إن قصة يزيد مع جاريته جاءت في المرويات التي تناولتها مهولة مشوهة، اعتراها كثير من المبالغة والاضطراب والتناقض والزيادة، بل والاختلاق فمنها ما يشير إلى تلك القصة باتزان، ومنها ما شابهه بما لا يقبل ولا يعقل، ومنها ما ظهرت فيه الإساءة والطعن بتحريف أو زيادة أو اختلاق؛ فجاءت تلك المرويات تحمل العجب والمنكر، وذلك إما لهوى في نفس راويه، وإما لغرض يقصده ناقلها، أو نقلها مسندة فحمَّل المسئولية من رواها.
انتصار يزيد بن عبد الملك لفاطمة بنت الحسين
في ربيع الأول عام 104هـ عزل يزيد بن عبد الملك عن إمرة الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان سببه أنه خطب فاطمة بنت الحسين، فامتنعت من قبول ذلك، فألحَّ عليها وتوعدها، فأرسلت إلى يزيد تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النضري نائب الطائف فولاه المدينة، وأن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صوته أمير المؤمنين وهو متكئ على فراشه بدمشق، وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار فلما بلغ ذلك عبد الرحمن ركب إلى دمشق، واستجار بمسلمة بن عبد الملك؛ فدخل على أخيه فقال: إن لي حاجة، فقال: كل حاجة تقولها فهي لك إلا أن تكون ابن الضحاك. فقال: هو والله حاجتي. فقال: والله لا أقبلها ولا أعفو عنه، فرده إلى المدينة؛ فتسلمه عبد الواحد فضربه وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوف؛ فسأل الناس بالمدينة -وكان قد باشر ولاية المدينة ثلاث سنين وأشهرًا- وكان الزهري قد أشار على الضحاك برأي سديد، وهو أن يسأل العلماء إذا أُشْكِلَ عليه أمرٌ؛ فلم يقبل ولم يفعل؛ فأبغضه الناس وذمَّه الشعراء، ثم كان هذا آخر أمره.
سياسة يزيد بن عبد الملك الإدارية والمالية
تولى يزيد بن عبد الملك أمر المسلمين بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فسار بسيرته برهة من الزمن، ثم ترك نهجه واتخذ نهجًا آخر تابع فيه كثيرًا من سياسات أسلافه من بني أمية الإدارية والمالية، وخالف عمر بن عبد العزيز في بعض تجديداته وإصلاحاته خاصة في المجال المالي.
وبتفحص الروايات عن شخصية يزيد وسياسته يتبين أن الاختلاف بين شخصيتي يزيد وسلفه عمر هو الذي كان وراء الاختلاف بين سياسة الرجلين؛ فقد غلب على عمر بن عبد العزيز الوازع الديني فاتسمت سياسته بالروح الإسلامية، مما دفعه إلى تطبيق السياسة الإسلامية على نظم الحكم، كما فاقه عمر من حيث القدرة والكفاءة الإدارية والحضور الدائم، والانصراف إلى العمل، وتحمل المسئولية.
والحق أن يزيد بن عبد الملك لم يدع الأمور تجري بلا ضابط، فلم يكن بالبعيد عن إدارة دفة الحكم، فسنجده وراء الكثير من الأحداث يعالجها ويوجهها ويخطط لها، لكنه لم يعط كل جهده ووقته واهتمامه لشئون دولته كما كان يفعل سلفه عمر، ومع ذلك فقد حرص على بقاء دولته مهابة مصونة في الداخل والخارج، وإن كان قد اتخذ في سبيل تحقيق ذلك سياسات تخالف نهج سلفه عمر،قال ابن تغري بردي: غير أنه لما ولي الخلافة يزيد بعد عمر بن عبد العزيز غيَّر غالب ما كان قرره عمر، وقال: ثم عزل جماعة من العمال. فلم يقل: غير كل ما قرره عمر، أو عزل جميع عماله.
ويبدو جليًّا أن الخليفة يزيد لم يكن يملك الرؤية البعيدة، ولم يعمل وفق استراتيجية مرسومة، كما يظهر أنه لم يُحِط بظروف دولته بعد حركة الفتوح الكبرى التي تمت في عهد أسلافه، وأهمية استيعاب الدولة للمتغيرات التي تعيشها من جَرَّاء دخول أجناس ومذاهب مختلفة متباينة، كان على الدولة صهرها في جسم الأمة ونشر الدين الإسلامي بينه، وهذا ما لمسه عمر بن عبد العزيز وسعى إليه، إلا أن الخليفة يزيد لم يدرك ذلك فعاد إلى سياسة من سبق عمر من خلفاء بني أمية وذلك عن طريق العودة إلى تنشيط حركة الفتوح وضرب المعارضة بكل قوة، وإهمال الإصلاح الداخلي وعدم الاهتمام بصهر القوى الجديدة في أمة الإسلام وتطبيق الإحكام الإسلامية عليهم، وللحق فإن سياسة يزيد وحده لم تكن وراء الوهن الذي أصاب دولة بني أمية، لكنه بعدم إدراكه ما تحتاجه الدولة في تلك المرحلة من إصلاح، وما تعيشه من متغيرات، استمر في سياسة أسلافه قبل عمر، وأدار ظهره للكثير ما صنعه عمر، فاستمر الوهن في عهده، وجرت بعض سياساته بالدولة نحو هاوية الانهيار، وإن كان هذا الوهن والتدهور لم يظهر جليًّا في زمنه بل استطاع الإبقاء على حدود دولته مصونة وكيانها مهابًا، فظل ينخر في جسم الدولة متواريًا، حتى ظهر ذلك متأخرًا فيما بعد.
الثورات الداخلية في عهد يزيد بن عبد الملك
حدثت في عهد يزيد بن عبد الملك مجموعة من الثورات، كان لكل منها ظروفها الخاصة، وأسبابها المختلفة عن الأخرى، لكن بعضها كاد أن يُذهب بوحدة الأمة في عهد الخلافة الأموية، فمن هذه الثورات:
1- ثورة يزيد بن المهلب:
عندما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة خرج عليه يزيد بن المهلب، وخلع بيعته واستولى على البصرة؛ فجهز يزيد بن عبد الملك لقتاله جيشًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، فجمع يزيد بن المهلب جموعًا كبيرة، والتقى الطرفان بالعقر من أرض بابل، ودارت بينهما معركة رهيبة دامت ثمانية أيام قُتِلَ فيها يزيد بن المهلب، وعدد من إخوته، وخلق كبير من جيشه، وتفرق سائر جيشه وأهل بيته فلُوحِقوا وقُتِلُوا بكل مكان وكان ذلك سنة 102هـ.
2- حركات الخوارج:
حركة شوذب: ما إن تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة حتى تجددت حركة شوذب الخارجي، وتم القضاء عليه وعلى أصحابه على يد مسلمة بن عبد الملك أثناء سيره للقضاء على حركة بن المهلب، فإنه لما دخل الكوفة شكا إليه أهلها شوذب وخوفهم منه؛ فجهز جيشًا من عشرة آلاف جعل قيادته لسعيد بن عمرو الحرشي، ووجهه إليهم فدارت سنة 101هـ الوقعة، وتم القضاء على شوذب وكل أصحابه.
حركة مسعود العبدي في البحرين واليمامة: وقد تم القضاء عليها على يد سفيان بن عمرو العقيلي أمير اليمامة، وكان القضاء عليها في أواخر عهد يزيد على قول البعض، وهناك من يرى أن الحركة في عهد يزيد كانت على يد أخِ مسعود العبدي.
حركة مصعب الوالبي: خرج مصعب الوالبي بالكوفة، وتم القضاء عليه في عهد يزيد بن عبد الملك بواسطة عامله ابن هبيرة.
حركة عقفان: خرج عقفان الحروري على يزيد بن عبد الملك بناحية دمشق وكان عدد أصحابه ثمانين رجلاً من الخوارج وعندما أراد يزيد القضاء عليه عسكريًّا، أُشِيرَ عليه أن يبعث إلى كل رجل من أصحاب عقفان رجلاً من قومه يرده عن رأي الخوارج، على أن يؤمنهم الخليفة، فقد قالوا للخليفة: إن قُتِلَ هؤلاء بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، فوافقهم الخليفة على رأيهم، وسار إليهم أهلوهم وقالوا لهم: إنا نخاف أن نؤخذ بك، وأَمَّنوهم فرجعوا عن رأيهم وانفضوا من حول زعيمهم عقفان، فبقي وحده فأرسل إليه يزيد أخاه فاستعفه وأمَّنه، فردَّه وقد ترك رأي الخوارج، بل إنه خدم الدولة فتولى زمن هشام أمر العصاة، ثم استعمل على الصدقة حتى توفي هشام.
3- حركة شريم اليهودي:
وهو يهودي سوري أعلن أنه المسيح المنتظر والمنقذ لليهود، وسير حملة لانتزاع فلسطين من المسلمين، فغادر يهود بابل وأسبانيا موطنهم ليشتركوا في هذه المغامرة، إلا أن القائم بها أُسِرَ، وعرضه الخليفة يزيد بن عبد الملك على الناس على أنه مهرج دجال، ثم أمر به فقُتِل.
يتضح لنا أن خلافة يزيد بن عبد الملك كانت نموذجًا صريحًا للخليفة العادي، الذي اتضح الفارق بينه وبين سابقه عمر بن عبد العزيز، الأمر الذي جعله في نظر الجميع خليفة لا يرقى إلى مستوى الخلافة وأهليتها.