العالميّة والعولمة..
انصهرت حروفهما لتشكّل لفظهما ،تقاربٌ في اللّفظ واختلافٌ في الدّلالة ، شذوذٌ وتناحر ، تفاعلٌ وإرتقاء ،تسلّطٌ وهيمنة .
بين العالميّة والعولمة ،فروقٌ في الفكرِ شاسعة ، تباينٌ في المذاهب واضحة ، تباعدٌ في الأهداف ،وغطرسةٌ لهيمنةٍ متزايدة.
في الرّحلة حول حقيقتِهما ، وفي تتبّع الأثر لأصولهما ، يتراءى لنا من بعيدٍ إرثٌ افتقدناهُ وغيّبناه ، واستتباعٌ حضاري قبِلناه وقبّلناه .
للكشف عن غموضِهما، وتحرّي اختلاف المدلول في لفظِهما، لا بُدّ من وضعِهما تحت المجهر والبحثِ في مفهومِهما ، وإدراكُ أيّ اللّفظين أقرّه العقل البشري والقيمُ الفاضلة ، وأيّها كان أشدّ افتراساً لخطوط الجغرافيا وحدود السياسة القائمة .
بالنّظر إلى مفهوم العالميّة كما دارت في أفلاكهِ آراءُ الباحثين والمُفكّرين، فهو إدراكُ لقيمة الوجود البشريّ وارتقاءٌ بالإنسانيّة، احتكاكٌ ثقافيّ قائمٌ على الإنفتاحِ على الآخر مع الحِفاظ على الإنتماءِ والهويّة والأصالة ، وطرح الرّؤى والمُثاقفة القائمةِ على الإعتراف المتبادل بالكيانات والقوميّات والدّيانات والثّقافات ، دون فرضِ الآخر على الآخر مبادئه أو عقائده أو إرثه الحضاريّ ، فلا تنشبُ النّزاعات ، ولا تنشأُ الصّراعات ، فالحروب مستنكرةٌ يرفضها العقلُ السليم ، وتستنكرها القيمُ الفاضلة ، وتدحرُها مبادئُ الأديان الحقّة ، فهي دعوةٌ للبحثِ عن الحقيقة الواحدة ،وإثراءٌ للفكرٍ وتبادلٌ للمعرفة.
أمّا العولمة تلك الكلمة الصامتة، فأشكالُها مُتعدّدة، مُسمّياتُها مختلفة ،كائنٌ شرسٌ لا يبالي بسياج القوميّات، ولا يعترف باستقلال الإقتصاديّات ، في عروقه تجري الهيمنة ،وتتّسعُ في حدقات عينيهِ حبّ النّفوذ وبسطُ السّيطرة .
العولمة ، الكونيّة أو الكوكبةُ والشّوملة، ظاهرةٌ نتجت عقِب انهيار سور برلين ، وتفكّك الإتّحاد السوفييتي وانهياره بوجه النّظام الرأسماليّ الإمبرياليّ ، والذي يدعو إلى النّظام الرأسمالي وتبنّي آيديولوجية النّظام العالمي ، وهي مرحلةٌ متطورةٌ من هيمنة النّظام الرأسماليّ الغربيّ على العالم ، وتحليلُها بالمعنى الّلغوي يفيدُ بتعميم الشّيء وإضفاء الصّبغة العالميّة عليه ليتجاوز الحدود الجغرافيّة والخطوط السياسيّة ويشمل العالم .
غموضُ العولمة جعلها محلّ خلافٍ بين الباحثين والمفكّرين لتحديد مفهومِها، فما بين الهيمنةِ الأمريكيّة والثّورة التكنولوجيّة والإجتماعيّة والظّاهرة الإقتصاديّة دارت التّعاريف في أفلاكِها .
فالعولمةُ على أساس الهيمنة الأمريكية ،هي هيمنةُ التكنولوجيا الأمريكيّة على العالم وتعميم حضارتِها من خلالها ، وهي هيمنةٌ نتجت عقِب نهاية الحرب الآيديولوجية بين الرّأسماليّة والشّيوعيّة لتنتهي بانهيارِ الإتّحاد السوفييتي وسيطرةِ الولايات المتّحدة الأمريّكيّة على قُطبيّة الحكم في العالم .
والعولمة على الأساس الإقتصادي أدهى وأمرّ ، ولعلّ الأزمة الإقتصاديّة العالميّة الثانية في العقد الأخير عام 2008 خيرُ دليلٍ على ذلك ، إذ أنّها -أي العولمة الإقتصادية- تقوم على أساسِ نشرِ القيم الغربيّة في الإقتصاد، فلا معنى للإقتصاديّات الوطنيّة فيها ولا معنى لقوّة اقتصاد الدّولة، فالعالم سوقٌ واحد واقتصادٌ واحد اندمجت فيه جميعُ الأسواق ، يخضع فيها لقوى السّوق العالميّة ،العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشّركات الرأسماليّة الضّخمة متخطيةً القوميّات، وعازلةً لسيادة الدولة ، يصبح العالمُ فيها مقسّماً إلى قسمين ، قسمٌ ينتج ويطور ، وهو الدّول الغربيّة ، وقسمٌ يستهلك ويستورد وهي الدول النّامية،فهي تعكس التبادل غير المتكافئ بين قوى اقتصاديّة عالمية غير متوازنة.
أمّا العولمةُ على أساس الثّورة التّكنولوجيّة والإجتماعيّة، فهي الإتّجاهُ الذي يسعى لجعل العالم قريةً صغيرةً تزول معها الحدود الجُغرافيّة والخُطوط السياسيّة ولا يعتبرُ بها، من خلال التّداخل الواضح لأمور الاقتصاد والسّياسة والثّقافة والسّلوك عبر وسائل التّكنولوجيا المتقدّمة ووسائل الإتّصال الحديثة وشبكاتِ الإنترنت ،لتُصبح الحياةُ الإجتماعيّة بعدها متداخلةً بين الأمم ،دون انتماءٍ إلى وطنٍ محدّد أو لدولةٍ معيّنة.
يتّضح في النّهايةِ ومن خلال هذا السّردِالبسيط حول مفهوم العولمةِ أنّها في الحقيقة(أمركة)وأنّها مذهبٌ غربيّ يسعى للسّيطرةِ على العالم ثقافيًّا وسياسيّا واقتصاديّا ، من خلال التّكنولوجيا المتقدّمة ووسائل الإعلام والشّركات الرأسماليّة الكُبرى ، لفرضِ الحضارة الغربيّة وتعميمها على العالم .
هي أشبهُ ما تسمّى بثقافةِ الإختراق واجتِياح الثّقافات ،اختراقٌ لمقدّساتِ الأُمم والشّعوب ، تسعى لتفريغِ الوطنِ من إرثه الحضاريّ ، وانتمائه القوميّ والسياسيّ والدينيّ ، لا يصبحُ بعدها إلا تابعاً منصاعاً لقوى العالم الكبرى وحضارتهم الغربية .
العولمةُ استعمارٌ سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ اجتماعيّ وهيمنةٌ أمريكيّة تسعى للوصولِ بالبشريّة إلى نمطٍ واحدٍ في التّغيير والأكلِ والملبس والعاداتِ والتّقاليد في صورة ظاهرةٍ يطلق عليها لفظ العولمة الدّاعية للإقتصاد الحرّ والرّبح والمُنافسة، والعالمُ قريةٌ صغيرة واحدة يغدو فيها بدون دولة، بدون أمّة، بدون وطن، فقط هو عالمُ المؤسّسات والشّبكات.
بعد الحديثِ عن العولمةِ بشكلٍ مختصر حول مفهومها ودلالتها وأشكالِها ، وخطرها الإستعماريّ السّاعي إلى تعميمِ نمط الحضارة الغربيّة على العالم ،نأتي للمُقارنةِ بينها وبين العالميّة .
إنّ العالميّة بجوهرها تعكسُ ارتقاء الإنسانيّة من خلال التّفاهم والتّعاون بين الأمم، والإنفتاحِ على الآخر القائمِ على الإعتراف بهويّته وحضارتِه وإرثه ، والإحتكاكُ القائمُ على إثراء الفكر وتبادل المعرفة ، سعياً في الوصول إلى سعادة البشريّة الّتي تحضّ عليها القيم الفاضلة ، على عكسِ العولمة القائمةِ على خلاف ذلك من خلال بسط الهيمنة والنفوذ وتعميمِ صياغةٍ أيديولوجيّة لحضارةٍ معيّنة على البشريّة جمعاء.
إنّ أوضح مثالٍ للعالميّة ، هو المُحتوى الرّئيسيّ والرّساليّ لحضارتِنا ، وهو الإرث الذي غيّبناه وقيدناه عن عالميّته بحججٍ واهية ، وأفكارٍ مهترئة ، وتصوّراتٍ مستلَبة ، فحين جاء الإسلامُ خاتماً للأديان ،جاء يُخاطب جميع البشر ، دينٌ عالميّ يصلح لكلّ الأزمنة والأمكنة ، لا يعرف الإقليميّة أو القوميّة أو الجنس ،جاء لجميع الفئات والطّبقات ، فلا تحدّه الحدود ، وقد دعا النّاس إلى عقيدته وشريعتِه وقيمه الأخلاقيّة، من خلال الدّعوة بالحكمة والموعظة والجدالِ الحسن
(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
(العنكبوت 46)
دون فرضٍ أو إكراه
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(البقرة 256)
ودون نبذٍ للآخر والإقرار بواقعِ الإختلاف الموجود في هذا الكون
(وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
(المائدة 48)
ومن يقرأُ تاريخ البشريّة عامّة ، سيرى أنّ الحضارة الإسلاميّة لم تُمارس العولمةَ بمفهُومها الدّال على الهيمنة والإمبرياليّة والتوسّع، والتسلّط والإكراه وفرضِ الحضارة ، بل كانت عالميّة تنطلق من مبادئ دينها ، فقد اعترفت بواقعِ الأديان والّلغات والقوميّات ، فعاملتها معاملةً كريمةً من خلال الإنفتاح عليها، حتّى أصبح المجتمعُ الإسلاميّ مثالاً في التّقدم والرّقيّ والإزدهار ، والأمن والأمان والإستقرار، رُغم التّنوع الديموغرافيّ والدّيني والثّقافي
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
(الحجرات:13)
إنّ العولمةَ التي نشهدُها اليوم في العصرِ الحديث ، والمتمثّلة في الهيمنة الأمريّكية وصياغتِها لآيديولوجيّةالحضارة الغربيّة وتعميمها على العالم ، قد أثبَتت وَهنَها وضعفَها وعجزَها ، ولعلّ ما يثبتُ ذلك هو الأزمة الإقتصادية العالميّة التي تلوحُ في الأُفق اليوم، ولعلّ ما يثبتُ أيضاً نجاعة إرثنا الحضاريّ ومعجزة المحتوى الرّئيسيّ لأمّتنا في ارتقاء الأمم وازدهارها وتقدم الإنسانية، بالرّغم من تغييبنا إيّاه ، وبالرّغم من عدم زجّنا إيّاه في كثير من حقول الحياة ، إلا أنّه أثبت تفاعُله مع قضايا النّاس واندماجه معهم في جميع شؤون الحياة،وإيجادهِ للحلول لكلّ قضاياهم ،وهذا من كمال هذا الدّين وإعجازه ،فهو دينٌ تفاعليّ حضاريّ منذ نشأته ، وأقرب مثالٍ على ذلك هو دعوةُ بعض من الإقتصادييّن الأوروبييّن للعمل بالنّظام الإقتصاديّ الإسلاميّ عقبَ الأزمة العالميّة الثّانية عام 2008، الأمرُ الذي أثبت وَهن النّظام الرأسماليّ المُعولم والذي تسعى الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّة من خلاله للسيّطرة على العالم وتكريس مفهوم النّظام العالميّ الجديد الذي تُباركه الماسونيّة العالميّة، والهادف إلى نشر الإلحاد وتفتيت الأمة الإسلامية تحت مسميات منمّقة من حرّية ديمقراطيّة وغيرها .
أرى أنّ إدراك عالميّة رسالة المسلم،أصالةً ثقافيّةً لا بُدّ له من إدراكها والذّود عنها في وجه ما تواجهُه اليوم من حربٍ فكريّة ظاهرةٍ مُعلنة، وإنّي لأرى أنّ الوعي بمسألةِ العولمةِ أمرٌ في غاية الأهمّيّة، إذ أنّها لا تعدو أحد مورثاتِ الصليبيّة ، روح الاستيلاء على العالم هي أساسُها ،لكن بطريقةٍ نموذجيّة يرضى بها المُستَعمَرُ ويهلِّلُ لها ،بل ويرى من هذه الصليبيّة الغربيّة المتلفّعة بلباسِ العولمة مطلباً ضروريّا للتّقدم والتّطوّر ..