الوطن ..
كما يجب أن يكون .
لست هارباً من المدينة الفاضلة ولم أكن في يوم أحد
روادها .. لم تنبذني مدينتي في يوم فأنا لا أزال أخلد
في أطهر بقعة فيها .. ولا تزال شمسها الأرجوانية تعانق
جبيني حين تستيقظ متثائبة على شرفة نافذتي كل صباح
وتهمس في أذني مودعة قبل أن تغفو في حضن البحر كل
مساء ..
قمر مسائها لا يزال رفيقي ..
لا يزال يؤنس وحدتي ..
لا يزال يداعب أجفاني الساهرة حتى ساعة متأخرة من
الليل ..
وحين آذن له في الرحيل يغادرني على رؤوس أصابعه كي لا
يوقظ حلماً مستتراً في ثياب الليل .
بحرها قطعة من قلبي .. في آخر زياراتي له ..
قبلني على عجل ثم مضى في سفرة طويلة واعداً
بعودة قريبة .. أشتاق له جداً.. لا يزال هو الآخر قيد
سفرته .. وأنا لا أزال قيد انتظاره .
ورود مدينتي المتسلقة بكبرياء وعنفوان سيقان قلبي ..
هي موضع سرّي .. أبوح لها بقصص عشقي .. فتحمر
وجنتيها .. وتحني الرأس خجلاً وتذوب استحياءً ثم تشيح
بوجهها قليلاً عني .. لا تزال تتسلق سيقان قلبي وتنبت
أوراقها الخضراء في عشوائية على مسامات جلدي .
لست في حالة اغتراب مع شمسها .. لست في حالة اغتراب مع
قمرها .. مع سمائها .. مع هوائها .. أنا في حالة
تصالح .. بل في حالة عشق مع كل ذرة تراب فيها ..
مع كل حبة رمل .. مع كل حصاة .. مع كل نسمة فيها ..
مع كل غيمة .. مع كل قطرة ندى .
لكنني في حالة اغتراب مع ذاتي .. في حالة اختلاف مع
نفسي .. في حالة صراع مع عقلي ..
أنا وعقلي لم نعد نتصالح !
يحدثني عقلي ملقياً إليَّ بأفكاره : هذه الشمس الأرجوانية .. شمسها التي تعانق جبينك كل صباح باتت تسخر منك .. نظراتها الودودة إليك أصبحت ممتلئة بالسخرية .. ضحكاتها الطفوليةعلى شرفة نافذتك هي استهزاء بك ..
وإلا فلماذا تُغرقنا عتمتها في وضح النهار ؟
وهذا القمر .. قمرها الذي كان ملاذاً للعاشقين كيف أصبح ملاذاً للمقهورين .. ملجأً لخائبي الرجاء ؟
انظر إليه كيف يختبىء داخل غيمة سوداء .. يخشى أن يُفتضح أمره عند فخامة السلطان .. ويقطع رأسه سيف أخيه الجلاد ..
هذا البحر .. بحرها المسافر .. لقد هجر مراكب الصيد والصيادين .. لمن يترك مراكبه .. لمن يترك صياديه .. لمن يترك أسماكه وحيتانه ؟ أيسافر البحر .. أيسافر بحر الوطن لتلاطم أمواجه شطانَ غريبة .. لمن يترك شطآنه .. ألكي تلاطمها أمواج الفراغ والعدم ! ؟
وهذه الورود .. ورودها المتسلقة سيقان قلبك .. ألا تجدها منكسرة .. ذابلة .. حزينة .. ألا تقرأ لغة الحزن في عينيها .. هل رأيت وروداً حزينة سوى ورود هذا الوطن ؟
أصبحنا مضغة في فم هذا الوطن .. يبلعنا وقت يشاء وكيف يشاء .. ويلفظنا إلى أرصفة الضياع وقت يشاء وكيف يشاء ..
********
أنظرُ في المرآة فترتعد فصائلي .. أهذا أنا .. أهذا أنا ؟
لماذا يلبسني الهم كثوبٍ بالٍ .. لماذا يرفض أن يخلعني .. ولماذا يرسم تجاعيده على ملامحي ؟ أنظرُ في عيون أطفال هذا الوطن أراها أصبحت بلون القهر .. ابتسامتهم تقطر قهراً وأنيناً ..
لماذا ضاقت أحلامنا فأطبق سقفها على رؤوسنا فلم نعد نرى لنا حلماً سوى رغيفٍ صغيرٍ من الخبز الجاف تبلله بعضٌ من قطرات الماء ..
لماذا كلما أحضن حجارة الوطن أبتغي تقبيلها تصفعني بكف من حديد ..
لماذا تصفعني يا وطن ؟
*******
حاولت رسم لوحة لهذا الوطن ..
غابت الألوان من لوحتي .. داهمها اللون الأسود ..
حاولت رسم صفصافة جدي .. غابت صورتها من مخيلتي ..
حاولت رسم بيتي .. أخوتي .. أهلي .. أقاربي ..
غابت صورهم .. ظهرت أمامي فقط .. صورة خيمة كبيرة
بحجم الوطن .
الوطن كما أشتهيه أنا .. كما أحب أن أرسمه ..
حضن دافىء أخلد إليه كل مساء ..
صفصافة شامخة أستظل بظلها ..
ثدي سخيّ يرضعني الحب والآمان ..
أنامل صبر تمسح عذاباتي وقهري .
الوطن كما هو الآن .. لا أستطيع أبداً رسمه ..
ولا أستطيع تخيله ..
زنازين وجلاد وسيف على رقبتي وخنجر في الظهر ..
الصبر أصبح تعويذة تحتل حروفها أبجديتي والخوف لوحة تحتل ذاكرتي .. وعلى مرمى البصر صحراء من الألف إلى الياء ..
فكيف أرسم الوطن ؟
*******
ويجيبه قلبي .. قلبي المفعم بحب هذا الوطن ..
المنغرس سنبلة في حديقة الوطن .. المرفرف يمامة حب
في فضاءات الوطن ..
كيف نرسم الوطن ؟
نرسم الوطن بأيادٍ صغيرة تتعانق بملحمة من الحب
والوفاء .. تحتضن حجراً .. تزرعه أرضاً لها ..
تغرس أقدامها في باطنه فتنبت جذوراً لها ..
ترفع أناملها علماً ترفرف رايته في السماء ..
تغرد حناجرها بالحب .. الحب ..
الحب هو أبجديتها من الألف إلى الياء ..
عندها فقط نكون قد رسمنا الوطن ..
الوطن كما يجب أن يكون .
مما راق لي فنقلته لكم احبتي واخوتي