ليس هناك أقسى على المرء من ألم الشوق والنوى عندما يستبد به ويتفاعل داخل أخبية روحه الحزينة. فيعزف على أوتار قيثارة القلب ، مولداً سمفونية غاية في الإبداع والتناغم ، مفعمة بالمشاعر والأحاسيس والتي تتنازع الإنسان ، فتزيد في تفاعل كيمياء النفس وتسارع إيقاعات القلب لأحبة لهم مكانة أثيرة في قلوبنا. فتخال صاحب القلب الملوع وكأن سحابة سوداء ، ملبدة بالأحزان والشجون قد تجمعت في سماء حياته، فيصبح كل ماحوله من مباهج الدنيا وزخرفها بلا طعم أو لون.
لطالما شكل هذا الموضوع مادة خصبة للأدباء والشعراء على مر العصور ، لما له من أثر واضح ووقع في النفس البشرية التي تكون في أمس الحاجة إلى يد حانية تضمد جراحها ، وتجلي الصدأ الذي ران على القلب ، وتراكم عبر السنين. فتحول إلى جبل من الهموم ، ينوء صاحبه بثقله ، يجثم على تلك الصدور التي أضحت الذكرى بلسم لجراحاتها ،التي أثخنتها السنون. والكلمات الرقيقة سلوى تهدئ من روع القلوب الحزينة. وعادة تلج تلك الكلمات الى القلب دون واسطة. إذ هي كلمات ولدت من رحم المعاناة والغربة. فتراها تجعل الفؤاد يضطرب ويرتعش حزناً، فتضطرم نار الشوق ويستعر إوارها بين أضلعنا. كلما مر بخاطرنا ذكرى عزيزة على قلوبنا حفرت أخاديد عميقة في داخل دهاليز الروح ، فأصبحت جزأً منها.
يقولون إن الزمن كفيل بمداواة كل تلك الجراح وعذابات السنين، ومع مرور الأيام تصبح مجرد ذكرى عابرة وكأنها سحابة صيف. ماذا عن الوطن ، الذي تحول إلى صوراً مشوشة يصعب تذكرها. فأصبح لوحة حزينة ترتسم في معالمها كل أشكال القهر والظلم؟ ماذا عن أجمل سنوات العمر التي أضعناها ونحن نشد الرحال من بلد إلى بلد، وتعبث بنا رياح الغربة وتلفح وجوهنا؟ نحاول أن نتفرس في تلك الوجوه الغريبة علنا نجد فيها ضالتنا، ولكنها وجوه باردة لا حياة فيها. نتسكع في طرقات المدينة التي تغفو على الشاطئ ، وتزدان بالأضواء المتلألئة وتعج بالمارة. نحاول أن نألفها ، ولكنها نسخة مشوهة للوطن. لقد تحولنا إلى أشجار خاوية، لا روح فيها ، تعصف بها الريح وتصفر بعد أن اقتلعت من جذورها وغرست في أرض بعيدة . وبعد أن كنا ننام في حضن الوطن وننعم بدفئه ، أصبحنا بلا هوية وبلا وطن!!!!