بيني وبين الورقة مساحةٌ شاسعة من القلق والتوتر..
ولا أدري لم قد أصبحت الورقة عنيدة ومُراوغة هكذا؟!
تتراكمُ بداخلي الكثيرُ من الأفكار والمشاعر التي لا تجدُ الشرفةَ
التي اعتادت الإطلال منها كي تراها عيونُ الحياة ويتزاحم الوقت كي
لا يعطيَ لي فُرصةَ التعبير عن ذاتي..
أو ربما أنا الي منشغله بالكثير من الأمور حتى وإن كانت تافهة أحياناً لأتجنّب
مواجهة الورقة ،وأختلقُ حالةَ العجز الكتابيّ لأهربَ من نفسي..من كومة الأفكار
التي تعبتُ من حملِها وحدي..من الضجيجِ المُتزايد الذي يُعربدُ في ثنايا
عقلي..أحياناً يكونُ مُخيفاً كأصوات أشباحٍ ليلية أُغلقُ في وجهها كل النوافذ
كي لا تدخلَ غرفتي الصغيرة وتستقرّ تحت سريري وتُرهبُ أحلامي..
وأحياناً أخرى يكونُ وديعاً عابثاً كصراخ التلاميذ الصغار وقت فُسحتهم ،
لكنهُ في أغلب الأحيان كصوت أمواج البحر في ليلة شتويةٍ باردة..
ليس مُخيفاً بقدر ما هو مُهيب..وليس عبثيّاً بقدر ما هو ساحر
إنه الضجيج الذي يملؤني ويُطاردُ الورقة..إنهما عاشقان لا مَحالة..
هو يعشق رقّتها..نقاءها..أنوثَتَها البيضاء الشفّافة كمرآة ينعكسُ عليها
فيتوهج ويزدادُ بريقاً وتألقاً وحضوراً
،وهي تعشق انفعالاته القويةَ أحياناً المهزومة أحياناً أخرى..
تعشقُ ضميرَه الصاخبَ دائماً ودموعَهُ المُتوارية خلف احتدام سطوته..
وتعرف أنها الوحيدة القادرة على وصفه بدقة وبمنتهى الحيادية..
وهو لا يَغضبُ من حياديتها رغم أن العاشق لا يرى في مَعشوقه إلا كلّ
ما هو جميل وبرّاق..لكنها وهي المتصوِّفة العذراء لا تقنعُ إلا بالمواجهة
والصدق والأمانة..
إنها الورقة العاشقة الصادقة..الشاردة الزاهدة..الراغبة المُتَمَنِّعة..الوفيّة الأمينة
وهو الضجيج الذي يملأ حيواتنا أملاً ويأساً..فرحاً وحُزناً..نجاحاً وفشلاً..
أُنساً ويُتماً..يملؤها بكل متضاداتها الطبيعية والتي يمرُّ بها الإنسان في
مختلف مراحل حياته..
لكنه مع الإنسان الكاتب والشاعر يبحث عنها كي يَتمخّضَ منها تلك اليمامة
البيضاء..تلك الأم المُحتَضِنة والعاشقة المُلوِّعة...
يقول رجاء النقاش في مُقدمة أحد مؤلّفاتِهِ"الصادقون الشجعان من الموهوبين همُ
القادرون وحدهم على الإبداع العظيم،وهمُ القادرون على أن يُؤَثِّروا تأثيراً حقيقياً
في الحياة والناس"
في رحلتي القصيرة مع الورقة كنتُ صادق
إلا أنني لم أكن شجاع بالقدر الكافي..فالشجاعة تتمثل في المقدرة
على سكب المشاعر والأفكار بدون اللجوء لعمليات (المونتاج)
إنني بحاجة إلى مراجعة ذاتي وهدم التخوم الترابية التي أقامتها
تلك الرياح السوداء القادمة من بلاد الأقزام..
وعقد اتفاقية ود جديدة مع الورقة كي أحتميَ بها حين يشتدُّ جنونُ الحياة..
.