رَمَضَانُ يا ..فُرصَةُ المُحِبّينَ
د.محمد بن عبدالرحمن العريفي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام ، وجعله مطهراً لنفوسهم من الذنوب والآثام ،الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام والساعات والأيام وفاوت بينها في الفضل والإكرام وربك يخلق ما يشاء ويختار.
أحمده سبحانه فهو العليم الخبير الذي يعلم أعمال العباد ويجري عليهم المقادير ..لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير.
في السماء ملكه ، وفي الأرض عظمته ، وفي البحر قدرته خلق الخلق بعلمه فقدر لهم أقداراً ، وضرب لهم آجالاً ..خلقهم فأحصاهم عدداً ، وكتب جميع أعمالهم فلم يغادر منهم أحداً ، وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام ، ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام ..صلى الله وسلم وبارك عليه ..ما ذكره الذاكرون الأبرار .. وصلى الله وسلم وبارك عليه ..ما تعاقب الليل والنهار ، ونسأل الله أن يجعلنا من خيار أمته ، وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته.
أما بعد .. أيها الصائمون والصائمات ..
ما أشبه الليلة بالبارحة .. هذه الأيام تمر سريعة وكأنها لحظات ..
لقد استقبلنا رمضان الماضي .. ثم ودعناه .. وما هي إلا أشهر مرت كساعات .. فإذا بنا نستقبل شهراً آخر .
وكم عرفنا أقواماً .. أدركوا معنا رمضان أعواماً وهم اليوم من سكان القبور ينتظرون البعث والنشور ،وربما يكون رمضان هذا لبعضنا آخر رمضان يصومه.
إن إدراكنا لرمضان نعمة ربانية ومنحة إلهية فهو بشرى تساقطت لها الدمعات ، وانسكبت العبرات { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان }.
وروى النسائي والبيهقي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ \" ..
وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة واغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة ).
نعم..كم من قلوب تمنت..ونفوس حنت..أن تبلغ هذه الساعات ..
شهرٌ .. تضاعف فيه الحسنات .. وتكفر السيئات ..
وتُقال فيه العثرات .. وترفع الدرجات ..
تفتح فيه الجنان .. وتغلق النيران .. وتصفد فيه الشياطين ..
شهرٌ جعل فيه من الأعمال جليلُها .. ومن الأجور عظيمُها ..
روى الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ \" ..
نعم .. شهر رمضان ..
هو شهر الخير والبركات .. والفتوح والانتصارات .. فما عرف التاريخ غزوةَ بدر وحطين .. ولا فتحَ مكة والأندلس .. إلا في رمضان .. لذا كان الصالحون يعدون إدراك رمضان من أكبر النعم قال المعلى بن الفضل : كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان !!
وقال يحيى بن أبي كثير : كان من دعائهم : اللم سلمني إلى رمضان .. وسلِّم لي رمضان .. وتسلَّمه مني متقبلاً ..
نعم .. كان رمضان يدخل عليهم وهم ينتظرونه ويترقبونه .. يتهيئون له بالصلاة والصيام .. والصدقة والقيام ..أسهروا له ليلهم .. وأظمئوا نهارهم .. فهو أيام مَّعْدُوداتٍ .. فاغتنموها ..
لو تأملت حالهم لوجدتهم بين باك غُلب بعبرته ، وقائم غص بزفرته ، وساجدٍ يتباكى بدعوته ..
كان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله :
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ..كانوا .. ربانيين .. لا رمضانيين .. هم في صيام وقيام .. في رمضان وغير رمضان.
باع رجل من الصالحين جارية لأحد الناس .. فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان الطعام ..
فقالت الجارية : لماذا تصنعون ذلك ؟
قالوا : لاستقبال الصيام في شهر رمضان .. فقالت : وأنتم لا تصومون إلا في رمضان ؟!
والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان .. لا حاجة لي فيكم ردوني إليهم ، ورجعت إلى سيدها الأول.
كانوا يدركون الحكمة من شرعية الصيام فالصوم لم يشرعْ عبثاً نعم .. ليستْ القضية قضية ترك طعام !! أو شراب كلا .. القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير .. شرع لكي يعلمَ الإنسان أن له رباً يشرعُ الصومَ متى شاء ويبيحُ الفطرَ متى شاء !! يحكم ما يشاء ويختار .. فيخشاه ويتقيه { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } نعم { لعلكم تتقون } .
والتقوى خشيةٌ مستمرة ..
خـل الـذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك الـتقى
واصنع كماش فوق أرض … الشوك يحذر ما يرى
لا تـحـقـرن صـغيرةً .. إن الجبالَ من الحصى
التقوى هي الخوفُ من الجليل ..والعملُ بالتنزيلُ ..والقناعةُ بالقليل ..والاستعدادُ ليوم الرحيل.
ومن حقق التقوى شعر بأن حياته كلَّها ملك لله تعالى يفعل بها ما يشاء .. فهو يصلي وقت الصلاة ، ويصوم وقت الصوم.
ويجاهد في الجهاد ، ويتصدق مع المتصدقين فليس لنفسه منه حظ ولا نصيب بل حياته كلها وقف لله تعالى.