[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]نظَّارة سميكة على جمجمة عارية من اللحم صوب جريدة تمسكها يدُ هيكلٍ من العظم لرجل في السبعين من عمره ممدد فوق سريره في شقة منعزلة عن الأُنس والبهجة، وعن الرحمة أيضا، ظل هذا الجسد الذي خرجت عظامُه من لحمه وملابسه الممزقة كما خرجت روحه منه بهذه الصورة طيلة سبعة أعوام أعلى عمارة بإحدى ضواحي مدينة المحلة الكبرى!
ليست هذه الصورة الدقيقة نتاج خيال كاتب كبير مبدع، وإنما نتاج واقع حقيقي، وكم يكون الواقع أحيانا أعلى إبداعا من الخيال وأشد منه ألما .
يمكنك أن تدخل ألف معرض أو أكثر لرسام عالمي، ويمكنك أن تشاهد آلاف اللوحات المعبرة والمتميزة المجسدة لكثير من المعاني الإنسانية، لكنها قطعا لن تكون أدل ولا أقرب تعبيرا مما شاهده أهالي منطقة "أبو راضى" وبالتحديد القاطنون في الشارع الجانبي المتفرع من "سعد محمد سعد" بمدينة "المحلة الكبرى" حين طالعوا بأعينهم جثة جارهم "عبد الله عبد الخالق" منذ اثنى عشر يوما تحديدا؛ ربما لأن ريشة الفناء مختلفة تماما في إيقاعها الفني عن ريشة الحياة .
عاش العجوز "عبد الله عبد الخالق" عدة سنوات من آخر سنين عمره وأقساها عليه وحيدا لا يطلب العون من أحد؛ منعزلا عن الناس لا يرى أحدا ولا يراه أحد، فبعد رحيل زوجته وجفاء أبنائه حاول الخروج من دوامة الوحدة فتزوج إلا أن زوجته الأخيرة لم تعش معه إلا قليلا، فسرعان ما لحقت بالأولى ليجد نفسه وحيدا مرة أخرى فأحس أن قدره أن يعيش ما تبقى من عمره هكذا فأسلم نفسه لدوامة الوحدة التي حاول من قبل الخروج منها.
وبعد طول معاناة مع الكبر والمرض والقطيعة وقع قضاء الله وصعدت إلى الله الروح وظل الجسد مكانه مدة سبع سنوات من تاريخ الجريدة التي كان يتصفحها العجوز قبيل وفاته؛ لتكشف هذه الرفاة البالية لنا مآسٍ وتدشن شهادة انتشار عقوق الأبناء لآبائهم بأرض الكنانة وسط صمت المجتمع والقانون وسلبيتهما.
تسربُ مياهٍ متزايدٌ بالعمارة التي يسكن المتوفى بأعلى شقة فيها دفع جيرانه إلى معالجة المشكلة، وحين تبين أن التسريب لا يأتي إلا من الطابق الأعلى تحديدا حيث يقيم العجوز الراحل سعى الجيران إلى إنقاذ الشقة التي ظنوا أن صاحبها قد سافر وتركها، أو أنه استقر عند أحد أبنائه بعد مغادرته لها منذ عدة سنين، فما كان منهم إلا أن ذهبوا إلى ابنه الأكبر "هشام عبد الله عبد الخالق" بعد أن حصل أحدهم على رقم هاتفه وطلبوا منه أن يأتي معهم لإنقاذ الموقف، غير أن الابن الأكبر رفض الذهاب؛ خشية أن يتصادم مع أبيه العجوز الذي فارقه دون أدني اهتمام منذ عشر سنوات حسب ما يروي بعض جيرانه، أو أنه ذهب معهم كما روى بعضهم الآخر.
ذهب الجميع إلى الشقة وطرقوا الباب فلم يرد عليهم أحد؛ فقرروا كسر الباب وكان لهم ما أرادوا ليكتشفوا المفاجأة، حيث وجدوا العجوز هيكلا من العظم ممدا في سريره0 هذا هو ما حدث وفق ما جاء بمحضر الشرطة المدون برقم "6466" جنح 2011 قسم أول المحلة.
تحرر محضر بالواقعة بواسطة الجيران الذين هالهم المنظر، ومن ثَم قاموا بإبلاغ المباحث، واتهموا أبناء جارهم بالتسبب في موته، عبر إهمالهم في حق والدهم وتركه يعاني المرض والكبر وحده حتى الموت، ولأن الأبناء لا يقطنون مع أبيهم في المنزل نفسه فإنه لا توجد دلائل تشير قانونيا للعقوبة، وبالتالي سيتم حفظ القضية حسب ما يرى القانون.
سواء ٌ ذهب "هشام" الابن الأكبر إلى أبيه مع الجيران أم لم يذهب. عشرة أعوام كاملة أو تزيد مرت بأفراحها وأتراحها لم يسأل خلالها الابن عن أبيه مرة واحدة، كأنه لم يمر خلال هذه الأعوام أعياد يهنئ الغرباء فيها بعضهم بعضا، وكأن أباه المسن لم يكن هرما مريضا يحتاج إلى ابتسامة أو يد حانية تقيل عثرته وتلم شتاته. نظرة عطف صادقة كافية لأن تخفف عنه أوجاع الحياة قبل أن تخفف عنه أوجاع المرض.
تُرى كيف كان هذا العجوز يقضي وقته؟ وماذا كان يفعل حين كان يشتد عليه المرض ولا يجد أحدا؟ بمَ كان يشعر حين تضيق به الدنيا وتضيق به نفسه ولا يجد إلى جانبه أقرب الناس إليه؟ مؤكدٌ أنه مات ألف مرة قبل يلفظ أنفاسه الأخيرة .
كان انطوائيا،كما يقولون، كان رجلا مسنا ينقل خطواته ببطء وعناية، لم يكن يحب التداخل مع الناس، فالتداخل لم يجلب عليه سوى المشاكل، المشاكل التي جعلت كثيرا من جيرانه ومن غيرهم يتسائل ما الذي فعله هذا العجوز بأبنائه حتى يجازوه بالبر قطيعة وبالحنان قسوة وبالمعروف جحودا، وكيف سوَّلت لهم أنفسهم ألا يصاحبوه في الدنيا معروفا؟ كأنه لم يربِّهم على عينه، ولم يحُطهم بعنايته وبره، وكأنهم لم يأووا إلى دفء أضلاعه البالية! حاولنا سؤال أبنائه عن السبب ولم نجد منهم جوابا، حيث رفضوا الحديث مع أية جهة إعلامية .
الحياة الاجتماعية في الريف وضواحي المدن مختلفة قليلا وربما كثيرا عن حياة أهل المدن، حيث تحظى غالبا بالترابط وإن شئت أن تقول بالتلاحم الاجتماعي فلن ينكر عليك أحد؛ لأن الجميع يعشون هناك كأسرة واحدة، يتكاتفون في أفراحهم وأتراحهم ويصونون حق الجوار بما يفرضه عليهم من واجبات وحقوق لا يجادلون عليها ولا يقصرون فيها .
أما الجيران والأصدقاء من أهل المحلة ومنهم "عبد الرحمن رافع/ موظف"، و"حافظ السيد/ بالمعاش"، و"عبدالله أمين"، و"محمد السيد جمعة"، و"مصطفى السقا"، و"سامي عبد المنعم" فربما لا يرون ذلك، فقد اكتفوا باستدعاء الشرطة يوم اكتشاف الواقعة، وتوجيه اللوم والتقريع إلى أبناء جارهم العجوز دون أن يشعروا بالتقصير في حق جارهم الأقرب، الذي لم يقدموا له طوال عشر سنوات إلا الكفن وتشييع الجنازة، وربما الندم حيث لا يجدي الندم .
لم تكن الطريق إلى مدينة المحلة طويلة خلال الذهاب، ولكنها كانت بلا شك طويلة خلال العودة0 لوحةٌ في الطريق وأنت راجع من المدينة مكتوب عليها "صاحبتكم السلامة"، ولوحة أخرى تستقبلك وأنت ذاهب مكتوب عليها "أهلا بكم في مدينة المحلة"، نعم أنت هنا في مدينة المحلة الكبرى حيث يمكن للابن العاق أن يقاطع والديه؛ أحدَهما أو كليهما، أو يتسبب جحوده وجفاؤه في مفارقتهما للحياة التي أنجباه إليها دون أن يجرِّمه نصٌّ من القانون أو يعاقبه أحد!!