ليس الزمن الفلسطيني مناسبة ظرفية استثنائية وليس مرادفا للخطابة ولا حائط مبكى,ولكنه "حضرة" شعرية وتاريخية,ومهرجان ملحمي تتصادى فيه الأزمنة والأمكنة ويتنادى إليه الأموات والأحياء والقادمون..إنه أفق للرؤية والرؤيا ونقطة تلاق وتقاطع للتواريخ..
نسمتنا التالية ستكون مع شاعر حمل روحه على راحته وألقى بها في مهاوي الردى في سيناريو شعري تحقق وسط نيران الوغى في لقطة تاريخية نادرة الحدوث بهذا الشكل,لكن بطلها جعلها إحدى أجمل النبوءات الشعرية في تاريخ الشعب الفلسطيني وديوانه الشعري أيضا..
لطالما صورت أشعاره نفسا ملحميا وذاكرة موتورة ولغة ملتهبة وإيقاع بارودي,هكذا أسس شاعرنا لصيرورة أشعاره الدرامية ليلتحم بها,لتغدو أشعاره الخالدة بانوراما نصية متعددة الفضاءات والأصوات وتُزاوج بين هواجس الشاعر-الإسم الفلسطيني- وبين هم وطن جريح تلبسه جراح في جراح...
إنه عبد الرحيم محمود الشاعر الذي رسم ورقص على إيقاع ترانيم الكتلة النفسية la masse psychiqueالتي تنبئت للحظة إستشهاده وخلدتها سلفا بعيون شعرية صارت نشيدا جماعيا ملحميا يرضعه الطفل الفلسطيني من ثدي أمه...
عبد الرحيم محمود
"ممات يغيظ العدى"
شاعرنا في سطور :
- ولد الشاعر سنة 1913 في قرية عنبتا الفلسطينية,إنتقل إلى طولكرم ثم نابلس بعد أن أتم المراحل الأولية من تعليمه بعنبتا..
- إلتقى بمعلمه الشاعر إبراهيم طوقان أثناء مسيرته الدراسية,طوقان إكتشف "بفطرة الشاعر وحسه المرهف" نبوغ عبد الرحيم محمود الشعري وكان فخورا به..
- إمتهن مهنة التعليم وتزامن توظيفه مع إندلاع الشرارة الأولى لثورة عام 1936 فزاوج بين النظال الشعري والنظال العسكري,إلتحق بصفوف المجاهدين متطلعا لمصيره الإستشهادي لكن إنتهت الثورة وصمد الإحتلال وكان ممن لا يجيدون لعبة الإختباء فحرقة الكتابة كانت عنوانه المعلن..
- ترك فلسطين وانتقل إلى العراق وحمل معه القلب الفلسطيني الذي لن يكف عن النبض,فكتب أشعاره بالعراق وإنتشرت بفلسطين فكان حاضر\غائبا فالله الله على الإزدواجية..
- اتصل الشاعر بمجموعة من الأسماء الأدبية العراقية كمعروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري وجميل صدقي الزهاوي ثم عاد الشاعر إلى أرض الوطن ليتنفس عبق الشعر والبارود بالرغم من زواجه لكنه لم يركن لدعة الحياة الزوجية وهمومها وهناءها..
- ضل يحمل توقا شفيفا حين تنقله من معركة إلى أخرى وقد بلغ هنا التوق أوجه النهائي في معركة ضروس اشتبكت فيها القوات الفلسطينية مع القوات الصهيونية حول قرية الشجرة..
- لازال الشاعر يتمتم بقصيده الهادر حين تسللت رصاصة الغدر إلى قلبه النابض بالشعر وبفلسطين..
- استشهد الشاعر عبد الرحيم محمود مطمئنا إلى خلود أشعاره شاهدة على نبوءته الأولى شعريا وأكمل رفاقه مسيرة الحرية على هدي كلماته الخالدة..
- بالرغم من إنشغال عبد الرحيم محمود بالوطن كقضية مصيرية لقصيدته فهذا لم يمنعه من الإنشغال على موضوعات أخرى فكانت له لمسات شعرية في القضايا الإجتماعية والوجدانية الذاتية والإنسانية التي تميزت بقيمة فنية عالية نابعة من موهبة أصيلة ودربة مستمرة على البوح الشعري ولعلها كانت مرشحة لأن تتضاعف حدة الرونق اللغوي والفني بشكل أكبر لو قدر للشاعر أن يعيش أكثر من خمسة وثلاثين ربيعا محتشدة بالكثير من الأحداث الدامية على صعيد الوطن والأمة...
(1)دعوة إلى الجهاد
دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد **** فخف لفرط فرحته فؤادي
وسابق النسيم لا افتخار ****أليس علي أن أفدى بلادي ؟
حملت على يدي روحي وقلبي ****وما حملتها إلا عتادي
وقلت لمن يخاف من المنايا ****أتفرق من مجابهة الأعادي؟
أتقعد والحمى يرجوك عونا ****وتجبن عن مصاولة الأعادي؟
فدونك خدر أمك فاقتحمه ****وحسبك خسة هذا التهادي
فللأوطان أجناد شداد ****يكيلون الدمار لأي عادي
يلاقون الصعاب ولا تشاكي ****أشاوس في ميادين الجلاد
تراهم في الوغى أسدا غضايا ****معاوينا إذا نادى المنادي
بني وطني دنا يوم الضحايا ****أغر على ربا ارض الميعاد
فمن كبش الفداء سوى شباب ****أبي لا يقيم على اضطهاد ؟
ومن للحرب إن هاجت لظاها ****ومن إلا كم قدح الزناد؟
فسيروا للنضال الحق نارا ****نصب على العدى في كل واد
فليس أحط من شعب قعيد ****عن الجلى وموطنه ينادي
(2) الشهيد
ســأحمل روحــي عـلى راحـتي **** وألقــي بهـا فـي مهـاوي الـردى
فإمــا حيــاة تســر الصــديق ****وإمــا ممــات يغيــظ العــدى
ونفس الشـــريف لهــا غايتــان ****ورود المنايـــا ونيـــل المنــى
ومـا العيش؟ لا عشـت إن لـم أكـن ****مخــوف الجنــاب حـرام الحـمى
إذا قلــت أصغــى لـي العـالمون ****ودوى مقـــالى بيـــن الــورى
لعمـــرك إنــي أرى مصــرعي ****ولكـــن أغذ إليــه الخــطى
أرى مصـرعي دون حـقي السـليب ****ودون بـــلادي هـــو المبتغــى
يلــذ لأذنــي ســماع الصليــل ****ويبهــج نفســي مســيل الدمــا
وجســم تجـندل فـوق الهضاب ****تناوشـــه جارحـــات الفـــلا
فمنــه نصيــب لأســد السـماء ****ومنــه نصيــب لأســد الــثرى
كســـا دمه الأرض بـــالأرجوان ****وأثقــل بــالعطر ريــح الصبـا
وعفـــر منــه بهــي الجــبين ****ولكـــن عفــارا يزيــد البهــا
وبــان عــلى شــفتيه ابتســام ****معانيـــة هــزء بهــذي الدنــا
ونـــام ليحــلم حــلم الخــلود ****ويهنــأ فيــه بــأحلى الــرؤى
لعمــرك هــذا ممــات الرجـال ****ومــن رام موتــا شــريفا فــذا
فكــيف اصطبـاري لكيـد الحـقود ****وكــيف احتمــالى لســوم الأذى
أخوفــا وعنــدي تهــون الحيـاة ****وذلا وإنــــي لـــرب الإبـــا
بقلبــي ســأرمي وجــوه العـداة ****فقلبــي حــديد ونــاري لظــى
وأحــمي حيــاضي بحـد الحسـام ****فيعلـــم قــومي بأنــي الفتــى
(3) حنين إلى الوطن
تلك أوطاني وهذا رسمها***في سويداء فؤادي محتفر
يتراءى لي على بهجتها ****حيثما قلبت في الكون النظر
في ضياء الشمس في نور القمر****في النسيم العذب في ثغر الزهر
في خرير الجدول الصافي وفي ****صخب النهر وأمواج البحر
في هتون الدمع من هول النوى ****في لهيب الشوق في قلبي استعر
دقة الناقوس معنى لاسمها ****واسمها ملء تسابيح السحر
~*~*~*~*~*~
فكرة قد خالطت كل الفكر ****صورة قد مازجت كل الصور
هي في دنياي سر مثلما ****قد غدا اسم الله سرا في السور
يا بلادي يا منى قلبي إن ****تسلمي لي أنت فالدنيا هدر
لا أرى الجنة إن أدخلتها ****وهي خلو منك إلا كسقر
منيتي في غربتي قبل الردى ****أن أملي من مجاليك البصر
ظمئت نفسي لمغناك فهل ****يطفئ الحرقة بالفؤاد القدر؟
فيصلي القلب في كعبته ****وتضم الروح قدسي الحجر
وتمرين بيمناك على ****جسد أضناه في البعد السهر
ويغني الطير في أشجاره ****نغما يرقص أعطاف الشجر
خبر تنقله ريح الصبا ****ويذيع الزهر أنسام الخبر
ويلاقي كل إلف إلفه ****ويلمان الشتيت المنتثر
~*~*~*~*~*~
يا بلادي أرشفيني قطرة ****كل ماء غير ما فيك كدر
ليت من ذاك الثرى لي حفنة ****أتملى من شذا الترب العطر